الجامعات الأمريكية- امتحان الحرية وكشف الغطاء عن إسرائيل

ارتسمت علامات الاستياء على وجه المذيعة الألمانية، فأوقفت التسجيل على الفور، معتذرة: "أنا آسفة جدًا، لكن لا يمكنني السماح لك بالاستمرار في هذا الحديث". كان ذلك أثناء تقديمي لمثال سريع، ينتقد الجدار العازل الذي شيدته إسرائيل في الضفة الغربية، وذلك في سياق مقارنة بين "العزلة المادية"، كما هو واقع الحال في إسرائيل وجنوب أفريقيا، و"العزلة الشعورية" التي نادى بها سيد قطب، و"العزلة النفسية" التي يعاني منها مرضى الاكتئاب أو ذوي التوحد المنغمسين في عالمهم الخاص.
يومها، وخلال مقابلة مع الإذاعة الألمانية باللغة العربية على هامش مؤتمر في مدينة إيرفورت، عبرت عن دهشتي قائلًا: "أستغرب إيقافك للتسجيل، فأين تلك الحرية الإعلامية التي تتشدقون بها ليلًا ونهارًا؟!". أجابتني على الفور: "إلا في هذه المسألة الحساسة، فمجرد الاستماع إلى كلماتك دون معارضة قد يعرضني لفقدان وظيفتي، بل وقد يعرضك أنت شخصيًا للمساءلة القانونية هنا".
عقدة تاريخية
قهقهتُ متعجبًا، وسألتها: "هل هذا الوضع مقبول بالنسبة لكِ شخصيًا؟". نظرت يمنة ويسرة للتأكد من عدم وجود من يصغي لحديثنا، ثم همست قائلة: "أنا ضد هذا تمامًا. إنه تقييد خانق لا مبرر له على الإطلاق. صحيح أنني أستنكر بشدة الفظائع التي ارتكبها أدولف هتلر بحق اليهود، ولكنني لا أرى أي منطق في أن يكون من حقي انتقاد الحكومة الألمانية بأشد العبارات، بينما يُمنع عليّ مجرد إبداء أدنى ملاحظة على سياسات دولة أخرى".
قلت لها آنذاك: "نحن في الشرق لا نرفض المحرقة فحسب، بل نُجل أيضًا الدور الذي قام به أجدادنا في حماية اليهود في بلادنا، واللاجئين الفارين من بطشكم؛ هربًا من هتلر عندما غزت الجيوش الألمانية شمال أفريقيا، ولكننا نتساءل باستغراب عن سبب إلقاء أوروبا بأوزارها التاريخية علينا، متخلصة من قسوتها البالغة على اليهود، وحبسهم في أحياء معزولة تغلق عليهم أبوابها عند حلول الظلام، بينما كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة في الشرق، في مجالات الاقتصاد، والثقافة، والسياسة، والمجتمع".
هزت رأسها في أسف، وكررت اعتذارها عما حدث، قائلة: "أتمنى أن تتفهم هذا الوضع، وربما يأتي يوم نراجع فيه هذه السياسات برمتها، ولا تستمر الأجيال في حمل وزر جريمة ارتكبها النازي، الذي تُحارب أفكاره بكل قوة في ألمانيا". لم يكن لدي ما أفعله حيال ذعرها الظاهر، ورفضها المكبوت لهذا الوضع، سوى تفهم دوافعها، أو بالأحرى، التعاطف معها، ومواصلة الحديث بعيدًا عن ذكر إسرائيل.
استرجعت هذه الذكرى وأنا أشاهد اليوم الجامعات الأمريكية تنتفض نصرة للقضية الفلسطينية، بل تتسع هذه الانتفاضة لتشمل الدفاع عن الحرية بشكل عام. فالقمع الذي يواجهه كل من يعترض على السياسات الإسرائيلية يأتي بنتائج عكسية، بل ويوقظ أيضًا عقول الطلاب عديمي الاهتمام، أو المحايدين، أو غير المنشغلين بالسياسة ودهاليزها: لماذا يُمنع الناس، في دولة تدعي الحرية، من التعبير عن آرائهم في قضية معينة؟
اختبار حقيقي
إن الطلاب الغاضبين في العديد من هذه الجامعات يربطون بشكل وثيق بين حريتهم وحرية الشعب الفلسطيني، وبين أمنهم وأمن هذا الشعب الأعزل. فبينما يرفضون "الإبادة الجماعية" التي يتعرض لها سكان غزة، وفقًا لما خلصت إليه محكمة العدل الدولية، ويعارضون استثمار الولايات المتحدة في إسرائيل، وخاصة في الصناعات الحربية، فإنهم يطالبون أيضًا بالإفراج الفوري عن الطلاب المعتقلين، وينادون بالالتزام الصارم بالدستور الأمريكي الذي يكفل حرية التعبير دون قيد أو شرط، ويعربون عن استغرابهم الشديد من اتهامهم بـ "معاداة السامية" لمجرد أنهم يرفعون أصواتهم ضد القتل والتدمير.
بهذه الطريقة، أتاحت القضية الفلسطينية للطلاب الأمريكيين، وفي العديد من الدول الغربية الأخرى، أن يضعوا حريتهم النظرية موضع اختبار حقيقي في الواقع الملموس، وأن يعيدوا التفكير في الفرضية التي طرحها سابقًا كل من جون ماشايمر وستيفن والت – وهما أكاديميان أمريكيان بارزان قبل عقدين من الزمن تقريبًا – عن تحول إسرائيل إلى عبء ثقيل على الولايات المتحدة. بل يمتد هذا الاختبار ليشمل تقييم حالة الديمقراطية في المجتمع الأمريكي نفسه، ومدى قابلية تطبيق بعض الأفكار الكبرى على أرض الواقع.
إن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث في فرنسا، حيث هتف الطلاب الغاضبون في المظاهرات العارمة التي اجتاحت البلاد في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران من عام 1968: "فلتسقط البنيوية"، جنبًا إلى جنب مع شعار "يسقط ديغول"، معتبرين البنيوية سجنًا لغويًا، جدرانه مبنية من الأنظمة والقواعد الجامدة، ويرونها تجعل الإنسان غريبًا ومنعزلًا داخل هذه القيود والتحكمات.
رحل ديغول بالفعل عن السلطة، وتخلى العديد من البنيويين عن أفكارهم السابقة، وتحطم النظام السلطوي المنغلق، الذي يرتكز على مركز ثابت كالعلة الأولى، لتظهر مناهج ونظريات واتجاهات فكرية أخرى. وراجع بعض البنيويين – مثل رولان بارت وألتوسير – أفكارهم، وانضم إليهم آخرون، لتبدأ مرحلة ما بعد البنيوية، وهي مدرسة فكرية رفضت إصرار البنيوية على الأطر والهياكل الثابتة كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، والتعامل مع اللغة على أنها نظام مغلق، وانطلقت من فكرة أن المعنى غير مستقر، وأن وجود فجوة بين الدال والمدلول هو أمر حتمي، وجعلت القارئ هو الأهم وليس الكاتب، ودرست كلًا من النص وأنظمة المعرفة التي أنتجته، وتجسدت في التفكيكية، ونظريات ما بعد الحداثة.
كسر القيود
لم تنتهِ ملامح البنيوية تمامًا، بل تم تطويرها وتحسينها، فكل ما جاء بعدها لا ينكر إسهاماتها القيمة في تحليل النص من داخله، أو إعطاء اللغة وزنها في التحليل. وعلى نفس المنوال، ليس من المتوقع أن تختفي الأفكار التقليدية التي استقرت في العقل الجمعي الأمريكي طويلًا حول "تقديس إسرائيل"، فبعضها يستند إلى نصوص دينية وتفسيرات معينة ومصالح اقتصادية واسعة، ولكن بعضها الآخر سيخضع للمساءلة والنقد، تمامًا كما حدث مع البنيوية في فرنسا.
إن ما يقوم به طلاب الجامعات في الولايات المتحدة ليس بالأمر الهين، فالعديد من التغييرات التي يشهدها الرأي العام، وخاصة في الدول الديمقراطية، تبدأ بطرح الأسئلة الجريئة، واختبار مدى صحة الافتراضات السائدة. وبالتالي، ومع مرور الوقت، سيكسر الشباب في الغرب القيود التي تكبل المواطنين هناك فيما يتعلق بإسرائيل، والتي تم فرضها لعقود طويلة من الزمن، وتقبلوها أو سكتوا عنها، أو لم يعيروها اهتمامًا من قبل، ولم يفكروا يومًا في إخضاعها لاختبار جاد وحاسم.
لا يبدو الأمر يسيرًا، وإلا لما أثار مخاوف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف احتجاجات الطلاب الأمريكيين ضد إسرائيل بأنها "عمل مروع"، وطالب، في كلمة مسجلة له، ببذل المزيد من الجهود للتصدي لها، قائلًا: "هذا عمل غير معقول، ويجب إيقافه وإدانته بشكل قاطع"، بينما يقول أكاديميون يهود مؤيدون لإسرائيل وأساتذة زائرون من إسرائيل نفسها؛ إن هذه الاحتجاجات حولت الجامعات إلى "بيئة معادية لهم، يشعرون فيها بالخطر الشديد".
تحول مهم
تحدث نتنياهو أيضًا عن تصاعد "معاداة السامية"، لكن مشاركة يهود في هذه الاحتجاجات، بما في ذلك أعضاء في جماعة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، يمثل نقطة ارتكاز للرد على هذا الاتهام، بل ويحفز الطلاب على التفكير بجدية في هذه المسألة، التي كانوا يسلمون بها في الماضي دون نقاش، ومن الممكن أن يزيد تصريح نتنياهو من إصرارهم على مواصلة طريقهم.
إن هذا يمثل تحولًا بالغ الأهمية، ينمو تدريجيًا، ويزيل عن إسرائيل الكثير من التعاطف الذي تمتعت به لعقود طويلة، ويكشف عن وجهها الحقيقي الذي طالما أخفته وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم في الغرب تحت طبقة سميكة من مساحيق الدعاية والتلوين السياسي الفج.
ومن يدري، فربما تنتقل عدوى الجامعات في أمريكا إلى أوروبا، ومنها إلى ألمانيا، وألا تضطر هذه الصحفية العاملة في الإذاعة الألمانية – أو زميلة أخرى لها قد تأتي بعدها بسنوات، – مذعورةً وآسفةً في آن واحد إلى مقاطعة حديث ضيفها بمجرد أن يلمح إلى ذكر إسرائيل، ولو كان ذلك بشكل عابر.
